فصل: فصل في ورود العفو في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.
أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال لما أنزل الله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإِسراء: 34] و{إن الذين يأكلون أموال اليتامى} [النساء: 10] الآيتين انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجلس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، واشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: لما نزل في اليتيم ما نزل اجتنبهم الناس فلم يؤاكلوهم ولم يشاربوهم ولم يخالطوهم، فأنزل الله: {ويسألونك عن اليتامى} الآية. فخالطهم الناس في الطعام وفيما سوى ذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والنحاس عن قتادة في قوله: {ويسألونك عن اليتامى} الآية. قال: كان أنزل قبل ذلك في سورة بني إسرائيل {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإِسراء: 34] فكانوا لا يخالطونهم في مطعم ولا غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة {وإن تخالطوهم فإخوانكم}.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] الآية. أمسك الناس ولم يخالطوا الأيتام في الطعام والأموال حتى نزلت {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} الآية.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال كان أهل البيت يكون عندهم الأيتام في حجورهم، فيكون لليتيم الصرمة من الغنم ويكون الخادم لأهل البيت، فيبعثون خادمهم فيرعى غنم الأيتام، أو يكون لأهل اليتيم الصرمة من الغنم ويكون الخادم للأيتام، فيبعثون خادم الأيتام فيرعى غنمهم، فإذا كان الرسل وضعوا أيديهم جميعًا أو يكون الطعام للأيتام ويكون الخادم لأهل البيت، فيأمرون خادمهم فيصنع الطعام ويكون الطعام لأهل البيت، ويكون الخادم للأيتام فيأمرون خادم الأيتام أن يصنع الطعام فيضعون أيديهم جميعًا، فلما نزلت هذه الآية: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] الآية. قالوا: هذه موجبة فاعتزلوهم وفرقوا ما كان من خلطتهم، فشق عليهم ذلك، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الغنم قد بقيت ليس لها راع، والطعام ليس له من يصنعه. فقال: قد سمع الله قولكم فإن شاء أجابكم. فنزلت هذه الآية: {ويسألونك عن اليتامى} ونزل أيضًا {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [النساء: 3] الآية. فقصروا على أربع فقال: كما خشيتم أن لا تقسطوا في اليتامى وتحرجتم من مخالطتهم حتى سألتم عنها، فهلا سألتم عن العدل في جمع النساء.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وإن تخالطوهم} قال: المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه، ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته وتأكل من ثمرته {والله يعلم المفسد من المصلح} قال: يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم ومن يتحرج منه ولا يألو عن اصلاحه {ولو شاء لأعنتكم} يقول: لو شاء ما أحل لكم ما أصبتم مما لا تتعمدون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: إن الله لما أنزل: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} الآية. كره المسلمون أن يضموا اليتامى وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} {ولو شاء الله لأعنتكم} يقول: لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه وسع ويسر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ: {وإن تخالطوهم فاخوانكم في الدين}.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {والله يعلم المفسد من المصلح} قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله أتريد أن تصلح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ولو شاء الله لأعنتكم} قال لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {ولو شاء الله لأعنتكم} قال: لو شاء الله لأعنتكم فلم تؤدوا فريضة، ولم تقوموا بحق.
وأخرج وكيع وعبد بن حميد عن الأسود قال: قالت عائشة: اخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي، فإني أكره أن يكون مال اليتيم عندي كالعيرة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.
قوله: {عَنِ الخمر والميسر} لابد فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير: عن حكم الخمر والميسر.
الخمر: هو المعتصر من العِنَبِ إذا على، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما على، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازًا.
وفي تسميتها خَمْرًا أربعة أقوال:
أشهرها: أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، والخمر: ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ و: خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ: علمٌ للضبع، أي: استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم.
قال: الوافر:
أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا ** فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ

أي: ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان:
الرجز:
في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ

والثاني: لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه «خَمَّروا آنيتكم».
والثالث:- قال ابن الأنباري من المخالطة- لأنَّها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الدَّاء، أي: خالطه.
وأنشد لكثير: الطويل:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ

ويقال: خَامَرَ السّقام كبده.
فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساترًا للعقل، كما سمِّيت مسكرًا؛ لأنَّها تسكر العقل أي: تحجزه.
والرابع: لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه: اخْتَمَرَ العَجِينُ أي: بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي: تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ.
وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدرًا مراردًا به اسم الفاعل واسم المفعول.
قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجَارُّ خبر مقدّم، و{إثْمٌ} مبتدأ مؤخَّرٌ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ، وإن كان المبتدأ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغًا آخر، وهو الوصف، أو العطف، ولابد من حذف مضافٍ أيضًا، أي: في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها.
وقرأ حمزة والكسائيُّ: {كثيرٌ} بالثَّاء المثَّلثة، والباقون بالباء ثانية الحروف.
ووجه قراءة الجمهور واضحٌ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب، ومنه آية: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].
وسمِّيت الموبقات: الكبَائِر، ومنه قوله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} [الشورى: 37]، و{كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وشرب الخمر، والقمار من الكبائر، فناسب وصف إثمهما بالكبر، وقد أجمعت السَّبعة على قوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} بالباء الموَّحدة، وهذه توافقها لفظًا.
وأمَّا وجه قراءة الأخوين: فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين، والمقامرين، فلكلِّ واحد إثمٌ، وإمّا باعتبار ما يترتّب على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه، وإمّا باعتبار ما يترتَّب على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة.
وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه.
وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنبًا إلى أن شربت، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، ولعن معها عشرةً: بائعها، ومبتاعها وغيرهما، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة.
وأيضًا فإن قوله: {إثْم}، مقابلٌ ل {مَنَافِع}، و{منافع} جمعٌ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة، وهو الكثرة.
وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهًا من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي: {مَلِك}، و{مالك} [الفاتحة: 3].
وقال أبو البقاء: الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء، لأنه يقال: إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ، ويقال في الفواحش العظام: الكَبَائِرُ، وفيما دون ذلك الصَّغَائِرُ وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ، والكثير كبيرٌ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ.
وقرأ عبدالله- وكذلك هي في مصحفه-: {وإثمهما أَكْثَرُ} بالمثلَّثة، وكذلك الأولى في قراءته، ومصحفه.
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] قد تقدَّم الكلام عليه.
وقرأ أبو عمرو: {قُلِ العَفْوُ} رفعًا والباقون نصبًا.
فالرَّفع على أنَّ مَا استفهاميةٌ، وذا موصولةٌ، فوقع جوابها مرفوعًا خبرًا لمبتدأ محذوفٍ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير: إنفاقكم العفو.
والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فيكون مفعولًا مقدّمًا، تقديره: أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوبًا بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضًا، والتَّقدير: أنفقوا العفو.
وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون ذا موصولةً، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ.
وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها، وموصولةً مع نصبه.
وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا} [البقرة: 26].

.فصل في ورود العفو في القرآن:

قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ {العَفْوِ} في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:
الأول: العفو: الفضل من الأموال قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} يعني الفضل من المال.
الثاني: {العفو} الترك؛ قال تعالى: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي يتركوا، ومثله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40]، أي: ترك مظلمته.
الثالث: العفو بعينه، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [آل عمران: 155].
و{لَكُمْ} متعلِّق ب {يُبَيِّن}.
وفي اللاَّم وجهان، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قلت لك.
والثاني: أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ.
والكاف في {كَذَلِكَ} تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو للسامع، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد.
والثاني: أن تكون خطابًا للجماعة، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد، ويؤيِّده قوله لَكُمْ، ولَعَلَّكُمْ، وهي لغةٌ للعرب، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقًا، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال: الرجز:
وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ

ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ

كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ